التقاعد وانتهاء العطاء / د. يوسف العجلوني

1

التقاعد مرحلة اخرى من مراحل الحياة ، ولا بد لاي موظف من الوصول اليها ، والمنطق والواقع ان التقاعد راحة من عناء العمل العام وضغوطاته لسنوات عديدة ، وانتهاء المعارك والصولات والجولات ، والمغامرات والمؤامرت ، وخلاص من عداوات وخلافات ومناكفات يخلقها العمل العام والتنافس على المناصب ، لا شك ان التقاعد راحة للمحاربين جسديا” ونفسيا” واجتماعيا”.

المتقاعدون هم ثروة وطنية ، حيث اصبحوا كفاءات علمية وخبرات مهنية ، وحيث التخطيط والقرارات المدروسة الصائبة المنتجة بحق وفاعلية ، ولكن المشكلة هنا تكمن في عدم وجود آلية لاستثمار هذه الكفاءات الناضجة ، مما يجعلها تتحول إلى بطالة مقنعة وأيدٍ غير عاملة وعقول غير مستغلة وطاقات مهدورة ، وبذلك تخسر الدولة بطريقة مباشرة او غير مباشرة التكاليف التي انفقتها في اعداد هذه الكوادر لسنوات عديدة ، وكذلك خسارة الإنتاجية المستقبلية المعتبرة الماهرة التي لازال يتقنها المتقاعدين ، وخسارة الخبرات العالية النقية المثمرة في تدريب وإعداد الجيل الجديد للاستمرار في البناء المتواصل وتحسين المؤسسات والتقدم والتطور ورفع المستوى لمقدرات الدولة في المجالات المختلفة.

يجب التخطيط لمرحلة التقاعد نفسيا” واجتماعيا” وماديا” حيث يعتبر الوضع المادي مصدراً رئيساً لقلق المتقاعد وخوفه من القادم ، لذلك من الضروري ان تضع الدولة والمتقاعد نفسه خطة” مسبقة” للتأهيل لدخول هذه المرحلة الجديدة لتامين الاستقرار النفسي للاستمرار بالحياة والاكتفاء المادي وتامين للصحة براحة وكرامة ، ويكون المتقاعد قادراً على قضاء وقته وإدارة حياته بأفضل ما يمكن ايجابيا” معتزا” وقويا” بنفسه ومجتمعه ووطنه ، وبذلك لن تتغير ثقته بالمؤسسات ولا انتماءه او ولائه للدولة مهما تغيرت الظروف.

اثبتت الايام ان الأفراد الذين لم يكونوا مستعدين لمرحلة التقاعد قد يدخلوا في حالة قلق واكتئاب ، وتصبح حياتهم صعبة ويدخلوا في مشكلات صحية ونفسية ، ويقضون أغلب وقتهم بين المستشفيات ويتحولوا الى اشخاص ناقمين على كل ما هو حولهم وممكن ان يحدث شرخ في انتمائهم وولائهم.

الاشخاص من أصحاب المهن والتخصصات مثل الطب يكون التخطيط للمستقبل سهل ، وهو فقط الاستمرار في العمل بالمهنة بفتح عيادة او الالتزام مع مستشفى ، وذلك يجعل الحياة كريمة ومريحة ويجد الطبيب فيها نفسه كما هو يرغب ، وهذا ما يجعل الاطباء لا يكترثون بالبقاء بالوظيفة وممكن ان يكون العمل الخاص لهم افضل واريح .

الاحالة مبكرا” على التقاعد سلاح ذو حدين ، فقد يكون خسارة للمؤسسة وعامة الناس والدولة ، وفي نفس الوقت قد يعطي المجال للمتقاعد لنجاح اكبر في مكان آخر ، فيكسب حياته بطريقة افضل ليعيشها براحة وأمان بعيدا “عن منغصات عديدة ، فهو الان بخبرة وادارة معتبرة ويستطيع ان يستخدم قدراته ويثبت نفسه بقوة على الاستمرار بحرية واختيار واسع لطرق النجاح.

الحقيقة ان التقاعد بداية لحياة جديدة باحسن الاحوال وبوجود الاصحاب والنفوذ والمال والمعرفة مما يجعل المتقاعد بهيبته ووقاره ، ولا زال قادرا” على العمل والعطاء.
الوصول الى مرحلة التقاعد أمر فرضته أنظمة العمل حتى يبدا الموظف بالعيش بطريقته وكما يريد ، وليس اعلانا” له بانتهاء اهميته او قدرته ، وليس حكما”عليه بالموت ، ولا يستطيع احد منعه من العطاء في ميادين أخرى بهمه ونشاط.

التقاعد يعطي الانسان الفرصة بان يعود إلى ممارسة أنشطته وهواياته التي أهملت بسبب ظروف العمل ، وللاستمتاع بما يملك وما عنده من مال بوجود الوقت الكافي لمستوى حياة افضل.

التقاعد يكون صعبا ومزعجا” لهولاء الذين قضوا خدمتهم مرتاحين نفسيا وجسديا او الذين اصبح وضعهم المادي متعسرا بعد التقاعد او الذين فقدوا الكثير من المميزات والمنافع التي كانوا يحظون بها خلال فترة الوظيفة ، خصوصاً ممن كانت لديهم مكانة اجتماعية بسبب المنصب ومكان العمل ، هؤلاء يقع عليهم التقاعد كمصيبة ويشعرون بالفرق ويبدا لديهم العسر والوحدة والضيق والقلق والشعور بالملل ، وهذا ما يدخلهم في حالة كآبة ويجعلهم عرضة للإصابة بالامراض النفسية والعزلة الاجتماعية ، والجلطات القلبية وتدهور الصحة والموت.

إخفاء المشاعر والأحاسيس لدى المتقاعد ، حيث يتظاهر في بعض الأحيان بالراحة النفسية والاكتفاء المادي امام الاخرين خلافا” لما هو عليه او ما يشعر به داخلياً ، ويبقى يتجنب الحديث عن مشاعره الحقيقية ولا يتقبل الواقع ، مما يزيد من همه ويتسبب في طول المعاناة والالم.

المتقاعد إنسان أدى دوره في الحياة وفي الأسرة ، ولا يجوز ان يشعر بان هذا الدور قد انتهى ، ولا يجوز ان تضعف ثقته بنفسه وبوجوده واهميته ويجلس ينتظر القدر والموت ، ويصبح لا يهتم بمظهره ، ويبدا يقنتع انه إنسان عاجز عن كل شي ، فينكمش على نفسه ولا يتقبل الراي الاخر ، ولا يقوم باي عمل إلا مشاهدة التلفاز ، أو الدخول في مرحلة متشددة من العبادة لأنه على مشارف القبر ، او يجلس في بيته مهموما مكدرا أسير اليأس ، وينظر إلى الاشياء والايام بنظرة تشاؤمية سوداء ، وهذا خطأ كبير يقترفه بحق نفسه وعائلته ومجتمعه.

التقاعد جماله الخبرة ورجاحة العقل والهيبة والحكمة والقرار ، وقبحه الضعف الجسدي والمرض والأوجاع والقلق والكآبة والسلبية ، لذلك يجب على المتقاعد ان ياخذ من الحياة التفاؤل والامل ، ويبتعد بقدر ما يستطيع عن السلبية والملل ، وسيجد نفسه مقتنعا” سعيدا” راضيا”.

التقاعد يعني اكتمال التجربة ، والانتقال من حياة العامل المشغول دائما إلى حياة المفكر المتامل . فالمتقاعد يستطيع العمل ، ويعمل ما يحب ، ويدخل في جمعيات إنسانية ، ويساهم في مشاريع توعوية ، ويمارس الرياضة ، ويسافر ويكتشف الاماكن والثقافات.

التقاعد هو كما تراه وتعيشه ، فهنالك من لا يحب التغيير ويعتبره النهاية ، وهنالك من هو جاهز له ويعتبره البداية ، والصحيح ان التقاعد مرحلة مريحة وممتعة ومميزة ، حيث تستطيع الجلوس مع نفسك كما يعجبك ويسعدك ، وتستطيع ان تختار من تحب من الأصدقاء ، ولست مرتبطا” بوقت او دوام او يوم او مكان او عمل او اشخاص ، ليس هنالك داع للتزاحم في الطريق للوصول الى العمل ، ليس هنالك مكان لتدخل الاخرين بما تقوم به ، ليس هنالك داع لعمل اي شي لا ترغب فيه ، انت تراقب نفسك ، لست مضطرا لتراعي امزجة الاخرين ، وهنالك الوقت الكافي لتقوم بما ترغب ، ووقت كافي وممتع مع العائلة ، فالتقاعد مرحلة جديدة من العطاء والحياة ، ولا يوجد داع للخوف منها.

د. يوسف العجلوني